بسم الله الرحمن الرحيم

(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق: 1-5. صدق الله العلي العظيم

 آيات بيّنات نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تنبئه بالرسالة، وتحمله مسؤولياتها، تصدع أول كلماتها بالقراءة وهي مفتاح التعلّم، وتنطق آياتها بتعليم الله (عزّ وجلّ) لعباده ما لم يعلموا، وتذكر القلم، وسيلة للكتابة وطريقاً إلى حفظ العلم ونقله، وآلة للتعبير عمّا يجول في الخواطر.

لقد استرعى الله (عزّ وجلّ) انتباهنا في هذه الآيات وآيات أُخر إلى أهمية العلم والتعلم لأنه سبيل التحرر من العبودية لغيره سبحانه، والطريق القويم إلى معرفته (عزّ وجلّ)، ومعرفة شرعه.

وحسبنا أن تنوه آيات دستور الإسلام بالعلم، لندرك اهتمام هذا الدين الحنيف به، فلو تأمّلنا ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة من الحثِّ على العلم وفضله لوقفنا على ما للعلم من مكانة في الإسلام ، ولأدركنا مدى الاهتمام الكبير به.

وحيث وجد المناخ المناسب للعلم و التعلم ، ظهرت مظاهر الثقافة والإبداع، وكثر المؤلِّفون والعلماء حتى أصبحت المؤلَّفات المتنوعة تنأى عن العد إلى الدرجة التي تطلَّبَ تصنيفها، ومن أجله وضِعت الفهارس بأسماء المؤلِّفين ومؤلَّفاتهم، مثل الفهرست لابن النديم وغيره(1).

ومن منطلق أن العلم لا يحفظ ولا ينشر بنحو أفضل ولا أكمل إلّا بالكتاب، والكتاب لا يحفظ ولا يمكن الاستفادة منه مدة مديدة إلّا بالمكتبات، فقد وجِدَت على إثر ذلك المكتبات وانتشرت في جميع البلدان الإسلامية، ثم تنوعت فأصبحت منها الخاصة والعامة والأكاديمية وغيرها، و اتُبِعَت فيها الأساليب التنظيمية والثقافية والترفيهية، كما وضعت مواصفات خاصة لاختيار أُمنائها منذ ذلك العصر حتى أصبحت لها إدارات تضمّ المشرفين والخَزَنة والمناولين، و طُبِّقَت القوانين في مجال النسخ و التبادل والإعارة وغيرها.

وبالرجوع إلى تاريخ نشوء المكتبات، نجد أنّ الإنسان عمد إلى إيجاد المكتبات وخزائن الكتب منذ العصور القديمة، و قد كانت المكتبات في تلك الحقبة عبارة عن (دور للسجلات) أو ما يسمى بـ (ببيت الكتب) أو (بيت الرقم) حسب المواد المجموعة في تلك الفترة وموضوعاتها، وتطورت بعد ذلك بتطور مستوى الإنسان المعرفي والثقافي، وأصبح لها الدور الفاعل والمهم في تطوير النشاط العلمي في المجتمع، ثم أخذت تتوسع وتنتشر في كل أنحاء العالم بعد أن أدرك الإنسان مدى أهميتها وتأثيرها الايجابي في توعية المجتمعات وتثقيفهم، وتكفلها له بحفظ تراثه ومهمة إيصاله للأجيال القادمة، وبعد ذلك بعصور وتحديداً في العصر الإسلامي، أخذت المكتبات تنتشر بشكل أكبر وأوسع، و ذلك بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية واستنارت الشعوب بنور الإسلام فضمّت الفكر الإسلامي إلى ثقافاتها، كالحضارة اليونانية والفارسية والقبطية، كما كان لنشوء الخط العربي، واكتشاف الورق، و ازدهار الترجمة من الحضارات الأخرى التأثير الكبير في الحركة الفكرية والوضع الثقافي آنذاك بالإضافة إلى بروز العلماء و المؤلّفين العرب أنفسهم، ممّا أدّى إلى تعدد المكتبات و تنوعها إلى:

1- المكتبات العامة.

2- المكتبات الخاصة.

3- المكتبات الملحقة بالمساجد والجوامع.

4- مكتبات الدولة.

5- مكتبات المدارس ودور العلم والجامعات.

وغيرها(2).

وقد كان لبلاد ما بين النهرين الحظ الأوفر من بين باقي الدول الإسلامية، في تواجد المكتبات وانتشارها، حيث يذكر لنا التاريخ أنّ في حقبة العصر العباسي الأول (132- 232هـ) كان في مدينة الموصل فقط (950) مكتبة عامة، وبلغت فهارس الكتب التي اشتملت عليها مكتبة الري عشرة مجلدات، وكانت مكتبة البصرة تعطي رواتب وإعانات للطلاب الذين يعملون بها(3).

وعلى سبيل الإجمال لا الحصر نورد هنا جملة من أهم المكتبات العامة التي شيدت في العراق:

1- مكتبة بيت الحكمة:

تعد أول مكتبة في عصر الدولة العباسية وهي من أشهر المكتبات العامة حينها، كما تعتبر من أهم المكتبات في الحضارة العربية وأعظمها شأناً لما كانت تحتويه من الكتب النفيسة في جميع فروع العلم و المعرفة وبمختلف اللغات(4).

2- دار العلم ببغداد أو (خزانة سابور):

وهي من أهم المكتبات في العراق بالإضافة إلى مكتبة بيت الحكمة، أسسها أبو نصر سابور بن أردشير المتوفى (سنة 416هـ) و قد كان وزيرا للدولة البويهية(5).

3- المدرسة النظامية ببغداد:

أُسِسَت هذه المدرسة سنة (1065م). وافتتحت رسمياً سنة (1067م)، وزودت بالمجموعات الغنية بالكتب النادرة وبلغ عدد الكتب فيها حوالي (6000) كتاب(6).

4- المدرسة المستنصرية:

تأسست في عهد المستنصر بالله العباسي، واحتوت مكتبتها على أنواع المصنَّفات والكتب وكان مجموع كتبها (80000) مجلد(7).

وفي الوقت ذاته كان هناك الكثير الكثير من المكتبات الخاصة أو (الخزائن) كما كانت تسمّى في ذلك الوقت، وكان لهذا النوع من المكتبات شهرة واسعة وأعداد هائلة حيث شملت جميع الأماكن والبلدان الإسلامية، وخص بها الأغنياء و الوزراء وكبار المؤلّفين والأدباء والفلاسفة والحكماء .. ، نذكر منها على سبيل المثال:

1- خزانة الواقدي (ت 207 هـ)..

2- خزانة الأصمعي (ت 216 هـ).

3- خزانة الجاحظ (ت 255 هـ).

4- خزانة ابن النديم (ت 385 هـ).

5- خزانة الشريف الرضي (ت 406 هـ).

6- خزانة الشريف المرتضى (ت 436 هـ).

7- خزانة الفتح بن خاقان (ت 528 هـ).

8- خزانة ابن الجوزي (ت 597 هـ).

9- خزانة الكندي (ت 805 هـ).

10- خزانة إسماعيل ابن إسحاق الموصلي (ت 867 م).

وغيرها كثير .

 

النجف الأشرف والمسيرة العلمية:

ومن جملة المكتبات المهمة في العراق و التي كانت لها الريادة العلمية في المجتمع العراقي والنجفي على وجه الخصوص هي «الخزانة العلوية أو الخزانة الغروية» الواقعة في الصحن العلوي المقدّس في مدينة النجف الأشرف، مدينة العلم والعلماء، المدينة التي امتازت عن سائر البقاع، فهي ثالث بقعة استجابت لمودة أهل البيت (عليهم السلام) كما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا علي إن الله عرض مودتنا أهل البيت على السماوات و الأرض، فأول من أجاب منها السماء السابعة فزيّنها بالعرش والكرسي، ثم السماء الرابعة فزيّنها بالبيت المعمور، ثم السماء الدنيا فزيّنها بالنجوم، ثم أرض الحجاز فشرّفها ببيت المقدس، ثم أرض طيبة فشرّفها بقبري، ثم أرض كوفان فشرّفها بقبرك يا علي»(8).

وهي أول بقعة عبد الله عليها، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة، لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا على ظهر الكوفة»(9).

وهي التي اشتراها إبراهيم الخليل (عليه السلام) من أهلها واتخذها مسكنا(10).

وهي التي استوت عليها سفينة نوح (عليه السلام) (11)، و فيها ادخر قبرا لعلي (عليه السلام) ، كما كتب على ساجة بالسريانية عثر عليها عندما أرادوا دفنه (عليه السلام) : «بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر ادّخره نوح النبي (عليه السلام) لعلي وصي محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام»(12).

وهي المدينة التي كانت ومنذ زمن بعيد مهداً للعلم والمعرفة، منذ أن حطَّ رِحاله فيها شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) قبل ألف سنة تقريباً، وأسَّسَ فيها الحوزة العلمية المباركة وأقبل عليها طلاب العلم من جميع أنحاء الدنيا فازدهرت وكثرت مكتباتها وشيِّدت فيها المدارس وأصبحت من أهم المدن العلمية حتى غدت قبلة العلماء ومقصد طلاب المعرفة، بل وكانت النجف محط رحال العلماء، وناديا للمعارف حتى قبل هجرة الشيخ إليها، وفي هذا يقول الشيخ آغا بزرك الطهرانيS في تقديمه لكتاب تفسير التبيان للشيخ الطوسي: (إنني أذهب إلى القول بأن النجف كانت مأوى للعلماء، ونادياً للمعارف قبل هجرة الشيخ إليها، وأن هذا الموضع المقدّس أصبح ملجأ للشيعة منذ أُنشئت فيه العمارة الأولى على مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لكن حيث لم تأمن الشيعة على نفوسها من تحكمات الأمويين والعباسيين، ولم يستطيعوا بث علومهم ورواياتهم، كان الفقهاء والمحدِّثون لا يتجاهرون بشيء ممّا عندهم، وكانوا متبددين حتى عصر الشيخ الطوسي وإلى أيامه، وبعد هجرته انتظم الوضع الدراسي وشكِّلت الحلقات ...)(13).

ويذكر المؤرِّخون حول نشأة النجف الأشرف وبداية تاريخها وتمصيرها أنّها تتردد بين سنة (155هـ) وسنة (170هـ) وذلك حينما شيدت أول عمارة على قبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) التي كانت العامل الوحيد والرئيس في نشأت المدينة وفي توسعها وتطورها، يقول الشيخ آل محبوبة في هذا الخصوص: (فنشأت العمارة حول المرقد المقدّس سنة 170هـ وقطن النجف بعض العلويين والخاصة من الشيعة, ثم توسعت البلدة وتلاحقة العمارة بتوالي الأعوام وأخذت بحظ وافر من العمران حتى لم ينقض القرن الرابع الهجري إلّا وفي النجف من السادة العلوية ألف وتسعمائة عدا غيرهم من الشيعة).

وامتازت هذه المدينة المقدّسة بحوزاتها ومدارسها الدينية ومكتباتها المتعددة والمختلفة نذكر منها على وجه الإجمال:

  • مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
  • مكتبة الإمام الحكيم.
  • مكتبة كاشف الغطاء.
  • مكتبة أُسرة آل حنوش.
  • مكتبة المدرسة الشبرية.
  • مكتبة جامعة النجف الدينية.
  • المكتبة المركزية العامة.
  • مكتبة الإمام الحسن (عليه السلام) .
  • مكتبة الإمام الصادق (عليه السلام) .
  • مكتبة أبو سعيدة الوثائقية.
  • المكتبة الأدبية.
  • مكتبة كلية الفقه/جامعة الكوفة.

 

 

الخزانة العلوية

وأما (الخزانة العلوية) والتي باتت تعرف اليوم باسم (مكتبة الروضة الحيدرية) فهي من أقدم هذه المكتبات، ويعود تأسيس هذه المكتبة إلى القرن الرابع الهجري، حيث ذهب البعض إلى أنّ مؤسسها وواضع لبنتها الأولى هو عضد الدولة البويهي - وهو من أهم حكام الأسرة البويهية التي حكمت العراق وبلاد فارس، استمرت حكومته من سنة (338 ـ 372هـ) وكانت دولته واسعة الأطراف شملت العراق المعروف اليوم كلّه وبعض المناطق الأخرى.

وامتازت هذه المكتبة عن غيرها بما فيها من كتب ونفائس كثيرة ونادرة كان أغلبها بخط مؤلّفيها أو عليها خطوطهم، فكانت محط أنظار أهل العلم حتى زارها جماعة من المؤرّخين و الرحّالة كابن بطوطة (727 هـ) وغيره، وقد زارها الشيخ علي حزين اللاهيجي المتوفى سنة (1180 هـ) عندما جاء إلى النجف الأشرف ومكث فيها ما يقارب ثلاث سنوات وقال عنها: (قد اجتمع في مكتبته (عليه السلام) من كتب الأوائل و الأواخر في كل فن مالا أتمكن من عدِّهِ)(14).

وكذلك وصفها السيد عبداللطيف الشوشتري (ت1220 هـ) عندما زارها بقوله: (أنّ فيها من نفائس العلوم المختلفة التي لم توجد في خزائن السلاطين)(15).

ويمكن أن نوجز أهمّ الأسباب التي أدّت إلى شهرة هذه المكتبة في النقاط الآتية:

1- تشرّفها بالانتساب إلى مرقد باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وحامل راية الإسلام الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومجاورته.

2ـ اهتمام السلاطين والأُمراء والوزراء برفدها، حيث كانوا يهدون إليها أنفس ما بحوزتهم من مخطوطات ونفائس تقرّباً إلى الله تعالى وتكريماً لصاحب الروضة.

3ـ اهتمام العلماء والمؤلّفين بها، وذلك من خلال:

أ: رفدها بالكتب والمكتبات الخاصة، فإنّ صدر الدين الكفّي الآوي(16) لمّا قام بتأسيس المكتبة من جديد بعد احتراقها ، بدأ بشراء الكتب والمكتبات الخاصة من بغداد حيث أُصيبت بغلاء وقحط فبيعت خزائن الكتب للغلة(17).

ب: وقف الكتب والمكتبات، حيث أوقف ابن العتائقي الحلّي (ت 760 هـ) وكذلك جلال الدين بن شرفشاه الحسيني(18) كتبهم وتأليفاتهم على مكتبة الخزانة الغروية ولا تزال أغلب الكتب التي ألّفها أو نسخها ابن العتائقي (رحمه الله) بخطّه موجودة في خزانة المخطوطات إلى الآن.

4ـ وجود الحوزة العلمية.

5ـ وجود المدرسة العلوية داخل العتبة المقدسة، وفي ذلك يقول الاُستاذ الشيخ علي الشرقي (ت 1964م):

(إنّ الجاليات والرواد الهابطين على المدرسة النجفية من بلاد إيران والهند وآذربيجان وما وراء النهر والقوقاز وعاملة والخليج وبعض نواحي اليمن، كانوا يفدون على النجف بثرواتهم المادية والأدبية وأهمها أُمّهات الكتب المخطوطة من كتب الفلسفة والرياضيات والأدب والفلك والتاريخ والمسالك والممالك، وقد كان رواد العلم وطلّابه يسكنون على الأغلب المدرسة العلوية الكبرى (الصحن) ومنهم المقيم في غيرها من المدارس والدور الخاصة، وكانت في المدرسة العلوية خزانة كتب نفيسة تجمعت ممّا يحمله المهاجرون، وكانوا بعدما يتزودون بزاد العلم ويعتزمون العودة إلى أوطانهم يتركون ما حملوه من نفائس الكتب، وما ألّفوه من رسائل وأطاريح في خزانة المدرسة العلوية محبسةً على طلابها)(19).

وهذه المدرسة زارها ابن بطوطة في رحلته عام (727 هـ) ووصفها بقوله: (ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكلّ وارد عليها ضيافة ثلاثة أيّام من الخبز واللحم والتمر، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبّة)(20).

ويرى بعض أنّ هذه المكتبة كانت تحتوي على أربعمائة ألف كتاب، إلّا أنّها تعرّضت للتلف والنهب تارة و للحريق تارة أخرى.

وقد أُعيد تأهيلها وافتتاحها مجدداً بجهود حثيثة وبسعي مبارك من قبل مركز الأبحاث العقائدية وتحت إشراف ودعم المرجعية الدينية في النجف الأشرف، في العشرين من جمادى الآخر يوم المولد المبارك لسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) سنة (1426ق) الموافق (2005م).

وننوه هنا إلى أهم وحدات هذه المكتبة العامرة حيث تم ترتيبها وفق عملها كالتالي: